فصل: الآية الثانية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قوله تعالى: {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ}، الآية/ 29:
هو مجاز عن البخل والجود ومراعاة الإقتصاد فيهما جميعا، فقال: {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ}: فلا تعطي من مالك شيئا.
ولما كان العطاء في الأكثر باليد غير غل اليد عن الإمساك، فالذي لا يعطي شيئا جعله بمنزلة من يده مغلولة إلى عنقه، والعرب تصف البخيل بضيق اليد، فيقولون: فلان ضيق الكفين إذا كان بخيلا، وقصير الباع، وفي ضده رحب الذراع طويل الباع طويل اليدين.
وقال النبي عليه الصلاة والسلام لنسائه: «أسرعكن بي لحاقا أطولكن يدا».
وإنما أراد به كثرة الصدقة، فكانت زينب بنت جحش، لأنها كانت أكثرهن صدقة.
وقال الشاعر:
وما كان أكثرهم سواما ** ولكن كان أرحبهم ذراعا

قوله تعالى: {وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ} فلا تخرج جميع ما في يدك مع حاجتك وحاجة عيالك.
{فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا}، يعني ذا حسرة على ما خرج من يدك.
وهذا الخطاب لغير النبي عليه الصلاة والسلام، فإنه صلّى اللّه عليه وسلّم لم يكن يدخر شيئا لغد، وكان يجوع حتى يشد الحجر على بطنه.
وقد كان كثير من فضلاء أصحابه ينفقون في سبيل اللّه جميع أملاكهم، فلم يعنفهم النبي عليه الصلاة والسلام، ولم ينكر عليهم لصحة يقينهم وشدة بصائرهم.
وإنما نهى اللّه تعالى عن الأفراط في الإنفاق، وإخراج جميع ما احتوت عليه يده من المال، من خيف عليه الحسرة على ما خرج من يده، فأما من وثق بموعود اللّه تعالى وجزيل ثوابه فيما أنفقه فغير مراد بالآية.
وقد روي أن رجلا أتى إلى النبي عليه الصلاة والسلام، فسلم إليه مثل بيضة من ذهب، فقال: يا رسول اللّه، أصبت هذه من معدن واللّه ما أملك غيرها، فأعرض عنه، فعاد ثانيا فأعرض عنه، فعاد ثالثا فأخذها النبي عليه الصلاة والسلام ورماه بها لو أصابته لعقرته، وقال: «يأتيني أحدكم بجميع ما يملكه ثم يقعد ويتكفف وجوه الناس».
وكان أبو بكر الصديق رضي اللّه عنه ذا مال كثير، فأنفق جميع ماله على النبي عليه الصلاة والسلام، وفي سبيل اللّه، حتى بقي في عباءة، فلم يعنفه النبي عليه الصلاة والسلام ولم ينكر عليه.
فكل ذلك يدل على أن ذلك ليس بمخاطبة للنبي عليه الصلاة والسلام، وإنما خوطب به غيره مثل قوله تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ}. {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ}.
فاقتضت هذه الآيات من قوله: {وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ}، الأمر بالتوحيد، والإحسان إلى الوالدين، وإلى ذي القربى، واليتامى، والمساكين، وابن السبيل، والنهي عن تبذير المال وإنفاقه في معصية اللّه تعالى، والأمر بالاقتصاد في الإنفاق والنهي عن الإفراط.
قوله تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ}، الآية 31.
وهو كلام يتضمن ذكر السبب الخارج عليه، فإنه كان من العرب من يقتل بناته خشية الفقر، لئلا يحتاج إلى الإنفاق عليهن، ويتوفر ما يريد إنفاقه عليهن على نفسه وعلى بيته، فكان ذلك شائعا فيهم وهي «الموعودة سئلت»، والموعودة هي المدفونة حية؟ وكانوا يدفنون بناتهم أحياء.
وقال ابن مسعود: سئل النبي عليه الصلاة والسلام فقيل: «ما أعظم الذنوب؟ فقال: أن تجعل للّه ندا وهو خلقك، وأن تقتل ولدك خيفة أن يأكل معك، وأن تزني بحليلة جارك».
قوله تعالى: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً}، الآية/ 32.
يدل على تحريم الزنا، وهو الذي تعرى عن نكاح وعن شبهة نكاح.
ووصف اللّه تعالى نكاح امرأة الأب بما وصف الزنا به، فقال تعالى:
{وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَمَقْتًا وَساءَ سَبِيلًا}.
وذلك يدل على مساواته في التحريم، وبينا ما يعترض به عليه.
واختلف العلماء في اللواط، وأنه هل يدخل تحت الزنا؟ والشروع فيه ليس من غرضنا.
قوله تعالى: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطانًا} الآية/ 33.
السلطان مجمل يحتمل: الحجة والدية والقود، ويحتمل الجمع لا جرم، الشافعي يخير بين القتل وغيره، لأن الكل بالإضافة إلى اللفظ سواء.
قوله تعالى: {فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ}.
قال الحسن ومجاهد وسعيد بن هبير والضحاك.
لا يقتل غير قاتله، ولا يمثل به، وذلك أن العرب كانت تتعدى إلى غير القليل من الحميم والغريب، فلما جعل اللّه تعالى له سلطانا نهاه عن التعدي، وعلى هذا المعنى قوله تعالى:
{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ}.
فإن كان لبعض القبائل طول على الأخرى، فكان إذا قتل منهم العبد لا يرضون إلا بأن يقتل الحر منهم، وهذا في هذه الآية: {فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ} بأن يتعدى إلى غير القاتل.
ذكر إسماعيل بن اسحق المالكي، في قوله: لوليه، ما يدل على خروج المرأة عن مطلق الولي، فلا جرم، ليس للنساء حق القصاص، كذلك قال، ولا أثر لعفوها وليس لها الاستبقاء.
ولم يعلم أن المراد بالولي هاهنا الوارث، وقد قال تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ}.
وقال: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْ ءٍ}، الآية.
وقال تعالى: {وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ}:
فاقتضى ذلك إثبات القود لسائر الورثة.
احتج إسماعيل في ذلك بوجوه ركيكة منها:
أن الولي في ظاهره على التذكير وهو واحد، ولم يعلم أن ما كان بمعنى الجنس استوى فيه المذكر والمؤنث.
ومما ذكره أن المرأة لا تستحق كل القصاص، والقصاص لا بعض له، فلزمه من ذلك إخراج الزوج من جملة الأولياء في القصاص، وعلى أنه لم يمتنع أن تكون المرأة بنفسها لا تستحق، ولكنها مع غيرها كالورثة، واعتذر عن ذلك بأن سبب الورثة واحد، وقد اختلف السبب هاهنا، فلزمه ألا يثبت القصاص بين الزوج والأخ ولا الأخ من الأم.
وذكر فيما ذكر أن المقصود من القصاص تقليل القتل، والمقصود بكثرة القتل الرجال دون النساء.
ولزم على هذا ألا يجب القصاص على المرأة بقتل الرجل، ولا على الرجل بقتل المرأة.
قوله تعالى: {وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}، الآية/ 34.
قال مجاهد: التي هي أحسن التجارة، خص اليتيم بذلك، لأنه إليه أحوج، وعن الاستقلال أبعد، وإلى المرحمة والشفقة أقرب.
ذكر الرازي أن اللّه تعالى لما قال حتى يبلغ أشده، علم أن إيناس الرشد عند بلوغ الأشد لا يعتبر، ولو اعتبر لذكر كما قال:
{حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ}.
والأشد مذكور على وجوه مختلفة في القرآن، قال تعالى في موضع آخر:
{حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً}.
وقال في موضع آخر:
{وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوى}، الآية.
وذكروا أنه بلوغ الحلم.
وذكروا أنه بلوغ أربعين سنة.
فليس للأشد مرد معلوم.
ويجوز أن يكون المراد ببلوغ الأشد قبل الأربعين سنة، وتختلف أحوال الناس فيه، والذي ذكره من أن إيناس الرشد ليس معتبرا مع الأشد فبعيد، فإن اللّه تعالى قال: {وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ}، فاقتضى ذلك جواز التصرف إلى بلوغ الأشد مطلقا، ولا يتحقق ذلك إلا عند جعل الأشد بمعنى البلوغ.
والولي لا يتصرف في مال اليتيم بعد البلوغ، ولا أنه يسمى يتيما إلى أربعين سنة.
قوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ} الآية/ 78:
قيل: دلوكها: زوالها، وقيل: غروبها، وقد وردت فيها آيات.
فإن كان الدلوك الزوال، وقد دلت الآية على صلاة الظهر والعصر والمغرب والعشاء، لقوله: لدلوك الشمس إلى غسق الليل.
قال ابن عباس: غسق الليل اجتماع الليل وظلمته، وقيل غسق الليل انتصابه، ووقت الإختيار للعشاء يمتد إلى ذلك الوقت.
قوله تعالى: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ}، مرتب على قوله: {أَقِمِ}، فتقديره، أقم قرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا.
وفيه دلالة على وجوب القراءة في صلاة الفجر.
وقال قائلون: المراد بقوله: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ}: صلاة الفجر، فإنه يبعد تخصيص صلاة الفجر بالقراءة فيها، والصلاة كما تشتمل على القراءة تشتمل على ما عداها من الأذكار.
والأولون استدلوا على ذلك بقوله تعالى في آخر الآية: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ}، والتهجد بالقراءة لا بصلاة الفجر.
ويجاب عنه، بأن المراد به التهجد بالصلاة، مرتبا على قوله: أقم الصلاة.
قوله تعالى: {وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا}، الآية/ 110.
روي أن أبا بكر كان يخافت، وكان عمر يجهر، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم لأبي بكر: لم لا تجهر؟ فقال: أناجي ربي وهو أعلم بحاجتي.
وقال لعمر: كيف تجهر؟ قال: أوقظ الوسنان وأطرد الشيطان، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: أحسنتما، ثم نزلت هذه الآية، فقال عليه الصلاة والسلام لأبي بكر: أرفع شيئا، وقال لعمر: اخفض شيئا.
وقالت عائشة في هذه الآية: أراد بها الدعاء والمسألة. وروت عائشة أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم سمع صوت أبي موسى فقال: «لقد أوتي أبو موسى من مزامر آل داود صلى اللّه عليه وسلّم». اهـ.

.قال القنوجي:

سورة الإسراء مائة وإحدى عشرة آية وهي مكيّة: قاله ابن عباس، ومثله عن ابن الزبير إلا أنه استثنى: إلا ثلاث آيات، قوله عز وجل: {وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ} [الاسراء: 76]. نزلت حين جاء رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم وفد ثقيف، حين قالت اليهود: ليست هذه بأرض الأنبياء، وقوله تعالى: {رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ} [الاسراء: 80]، وقوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ} [الاسراء: 60]، وزاد مقاتل قوله: {إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ} [الاسراء: 107].

.الآية الأولى:

{وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا (29)}.
{وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ}: هذا النهي يتناول كل مكلف، وقد وجه الخطاب للنبي صلّى اللّه عليه وآله وسلّم تعريفا للأمة وتعليما لهم، وإن كان الخطاب لكل فمن يصلح له من المكلفين.
والمراد النهي للإنسان أن يمسك إمساكا يصير به مضيقا على نفسه وعلى أهله، ولا يوسع في الإنفاق توسيعا لا حاجة إليه بحيث يكون به مسرفا، فهو نهي عن جانبي الإفراط والتفريط، ويحصل من ذلك مشروعية التوسط وهو العدل الذي ندب اللّه إليه.
ولا تك فيها مفرطا أو مفرّطا كلا طرفي قصد الأمور ذميم وقد مثّل اللّه سبحانه في هذه الآية حال الشحيح بحال من كانت يده مغلولة إلى عنقه بحيث لا يستطيع التصرف بها ومثّل حال من يجاوز الحد في التصرف بحال من يبسط يده بسطا لا يتعلق بسببه فيها شيء مما تقبض الأيدي عليه، وفي هذا التصوير مبالغة بليغة.
ثم بين سبحانه غاية الطرفين المنهي عنهما فقال:
{فَتَقْعُدَ مَلُومًا}: عند الناس بسبب ما أنت عليه من الشح.
{مَحْسُورًا (29)}: بسبب ما فعلته من الإسراف، أي منقطعا عن المقاصد بسبب الفقر.
والمحسور في الأصل: المنقطع عن السير.
وقيل: معناه نادما على ما سلف.

.الآية الثانية:

{وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطانًا فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُورًا (33)}.
{وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا}: أي لا لسبب من الأسباب المسوغة لقتله شرعا.
{فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطانًا}: أي لمن يلي أمره من ورثته إن كانوا موجودين، أو ممن له سلطان إن لم يكونوا موجودين، والسلطان التسلّط على القاتل إن شاء شاء عفا، وإن شاء أخذ الدية.
{فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ}: أي لا يجاوز ما أباحه اللّه له، فيقتل بالواحد الإثنين أو الجماعة، أو يمثّل بالقاتل أو يعذبه.
{إِنَّهُ}، أي الولي.
{كانَ مَنْصُورًا (33)} أي مؤيدا معانا، فإن اللّه سبحانه نصره بإثبات القصاص له بما أبرزه من الحجج وأوضحه من الأدلة، وأمر أهل الولايات فبمعونته والقيام بحقه حتى يستوفيه.
وقيل: هذه الآية من أول ما نزل من القرآن في شأن القتل لأنها مكيّة.